مبادرة فرنسية- دفعة لحل الدولتين في ظل العدوان على غزة

المؤلف: حسن أوريد09.07.2025
مبادرة فرنسية- دفعة لحل الدولتين في ظل العدوان على غزة

قد يتساءل البعض بذهول واستنكار: ما جدوى المبادرات الدبلوماسية بينما حرب الإبادة تشتعل بلا هوادة في غزة، حيث يتربص شبح التجويع بالجميع، وتُسد المنافذ أمام قوافل المساعدات الإنسانية، في ظل استهداف سافر للمدنيين العُزل والمستشفيات ودور الإغاثة، مع إصرار نتنياهو على المضي قدمًا في هذا الصراع؟

لاشك أن الهدف الأسمى، الذي يطغى على كل ما سواه، يتمثل في الوقف الفوري للعدوان الغاشم والسماح بتدفق المساعدات الإنسانية العاجلة، وهذا يتقدم على أي اعتبار آخر. ومع ذلك، لا يجوز التقليل من أهمية المبادرات الدبلوماسية الهادفة. ويتجلى ذلك في الموقف الفرنسي الذي أُعلن عنه خلال زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون لمصر في الأسبوع الأول من شهر أبريل/نيسان، حيث نددت فرنسا بشدة بترحيل الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية، وأبدت عزمها الراسخ على الاعتراف بالدولة الفلسطينية بحلول شهر يونيو/حزيران المقبل، وذلك في إطار مؤتمر دولي يُعقد تحت رعاية الأمم المتحدة وبالتنسيق مع المملكة العربية السعودية، بهدف التوصل إلى حل الدولتين.

إنه تحول إيجابي ملحوظ، بالرغم من الوضع المأساوي الذي يشهده قطاع غزة، والذي يزداد قتامة وعنفًا مع تصاعد وتيرة القتل وارتكاب الجرائم الإنسانية والتجويع الممنهج. وما يؤكد الطابع الإيجابي لهذا التحول الفرنسي هو ردود الفعل الغاضبة والعنيفة التي صدرت في إسرائيل تجاه هذا الموقف، سواء على الصعيد الرسمي أو غير الرسمي.

تتجلى أهمية الموقف الفرنسي في كونه صادرًا عن دولة تتمتع بخبرة واسعة في قضايا الشرق الأوسط وتاريخها، وتتبنى نهجًا يتسم بالتوازن والاعتدال. ويذكرنا ذلك بالجنرال ديغول وسياسته المستقلة التي لطالما أثارت حفيظة إسرائيل، والرئيس شيراك الذي زار الضفة الغربية وتعرض لمضايقات، وحتى الرئيس ميتران الذي احتضن الرئيس الراحل ياسر عرفات، وصرح بأن الميثاق الأول لمنظمة التحرير قد تجاوزه الزمن في عام 1990.

وها هو الرئيس ماكرون يعيد إحياء التقليد الفرنسي في السياسة العربية، في سياق جديد يطبعه التوتر والقلق، حيث لا تخفي إسرائيل نيتها في تهجير الفلسطينيين، الأمر الذي قد يدفع المنطقة والعالم إلى دوامة من الاضطرابات والعنف. وتجد هذه المخططات دعمًا خفيًا أو صريحًا في واشنطن.

تعلن فرنسا صراحة أن الحل الوحيد للنزاع هو حل الدولتين، وتعبر عن رفضها القاطع لسياسة التهجير. ولا ينبغي الاستهانة بقرار فرنسا الاعتراف بالدولة الفلسطينية، فهي دولة ذات مقعد دائم في مجلس الأمن، وتمتلك قوة نووية، ولها تأثير كبير في أوروبا وأفريقيا.

علاوة على ذلك، فإننا ندخل عصرًا لم يعد فيه حجم المبادلات التجارية هو المعيار الوحيد للقوة، في ظل التوجه الحمائي للاقتصاديات وتراجع العولمة، بل أصبحت المواقف الإستراتيجية للدول هي الفيصل. ويمكن لفرنسا أن تلعب دورًا فاعلًا ومؤثرًا على الصعيد الدولي من خلال بوابة الشرق الأوسط.

تتعرض فرنسا لضغوط داخلية جمة وتحديات كبيرة في ظل التحولات الهائلة التي يشهدها العالم، مما يفرض عليها إعادة صياغة سياستها الخارجية وتحديد شركائها في الشرق الأوسط وتطوير طريقة التعامل مع حلفائها.

يتماشى التوجه المتوازن الذي تتبناه فرنسا مع الموقف العربي الذي تم التعبير عنه منذ القمة العربية في بيروت عام 2002، أو ما يُعرف بالمبادرة العربية، ويتلاقى مع مواقف قوى دولية وازنة مثل الصين ومجموعات مؤثرة من دول الجنوب النامية.

يتفق الموقف الفرنسي أيضًا مع الموقف المصري الذي يعنيه بشكل مباشر أي تطور في قطاع غزة بحكم الجوار والمسؤولية التاريخية والانخراط الإنساني، كما ينسجم مع رؤية المملكة العربية السعودية التي احتضنت المبادرة العربية، ويحظى بصدى إيجابي واسع على مستوى الرأي العام العربي.

لا تكمن أهمية زيارة الرئيس الفرنسي لمصر واللقاء الذي جمعه مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والعاهل الأردني عبد الله الثاني في تسجيل موقف فحسب، بل في إرساء مسار جديد في العلاقات الثنائية بين مصر وفرنسا من جهة، والأردن وفرنسا من جهة أخرى. ويمثل هذا الدعم دفعة قوية لمخطط التعمير الذي تم تبنيه في القمة العربية والذي أشرفت مصر على إعداده.

وقد تكون هذه المقاربة الجديدة بمثابة خروج عن العباءة الأمريكية التي انفردت بملف الشرق الأوسط منذ اتفاقية كامب ديفيد عام 1979.

بالطبع، لن تكون فرنسا بديلًا للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ولذلك حرصت فرنسا، بالتنسيق مع مصر، على عدم تجاوز الدور الأمريكي. وقد لا تنظر الإدارة الأمريكية بعين الرضا إلى التحرك الفرنسي، ولكنه قد يلجمها عن تبني مخططات التهجير بشكل علني.

تخلق زيارة الرئيس الفرنسي لمصر والمواقف المعلنة زخمًا إيجابيًا من شأنه أن يغير طريقة التعامل مع الوضع المتردي في غزة، حيث يتصاعد القتل والتدمير، وتعمل آلة التهجير الإسرائيلية في الخفاء من خلال التخويف والترويع والتقتيل والتجويع.

ينطلق الموقف الفرنسي من اعتبارات سيادية مستقلة عن الاتحاد الأوروبي، وقد يؤثر على مواقف العديد من الدول الأعضاء. ولا يُتوقع أن تنخرط ألمانيا أو حتى إيطاليا في التوجه الذي تتبناه فرنسا، ولكنه قد يشجع دولًا أخرى ويدعم توجه دول مثل إسبانيا.

إن الصدمة التي أحدثها الرئيس ترامب في العلاقات مع أوروبا، وعزم الأخيرة على إرساء برنامج دفاعي أوروبي مشترك، سيدفعها بالضرورة إلى تنسيق رؤاها على مستوى السياسة الخارجية، بعيدًا عن المظلة الأمريكية.

ينبغي التذكير بردود الفعل المتوقعة على السياسة الأمريكية، سواء داخل الولايات المتحدة نفسها أو في الشرق الأوسط أو تجاه المهاجرين أو حتى فيما يخص الحمائية الاقتصادية، وهي ردود فعل مرشحة للتصاعد.

يسود الخوف من انزلاق نحو التسلط والاستفراد بالسلطة وإخماد الديمقراطية. ولا يُتوقع أن تتوقف موجة الاحتجاجات.

ينبغي إعطاء فرصة النجاح للمؤتمر الدولي حول حل الدولتين، برعاية كل من فرنسا والمملكة العربية السعودية. إنه يمثل فرصة تاريخية للتهدئة في منطقة ملتهبة عانت طويلًا من خيبة الأمل والإخلاف بالوعود.

وقد يكون هذا المؤتمر فرصة لتحقيق مصالحة حضارية في منطقة تمزقت خلال الحرب الباردة وعانت من ويلات التطرف، وتتأرجح بين الأمل في إرساء منظومة جديدة تكون حلقة وصل بين الحضارات، بالنظر إلى جغرافية المنطقة وتاريخها ومؤهلاتها، والخوف من تفكك الأوضاع بسبب التعنت الإسرائيلي والتغاضي الأمريكي ومخاطر التطرف التي قد تنجم عن تجاهل الوضع.

وقد يكون هذا المؤتمر فرصة للوقوف ضد النزعة السلطوية التي تهدد التعايش داخل المجتمعات الغربية نفسها. إن الخطر لا يتهدد الفلسطينيين وحدهم، بل يهدد العالم بأسره، وكل المبادرات التي تهدف إلى التخفيف من حدة التوتر مرحب بها، ولا ضير في أن تلتقي مصالح الفلسطينيين مع مستقبل العالم. إن المؤتمر الدولي حول حل الدولتين محكوم عليه بالنجاح.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة